من المواقف التى حدثت فى قرى مركز ( بنى مزار ) تكشف لنا حقيقة دور الأزهر فى بناء الإنسان . . . كتب أحمد إبراهيم أحمد
فقد ذكر الدكتور : أسامة الأزهرى ، فى موسوعته( جمهرة اعلام الأزهر فى القرنين الرابع عشر والخامس عشر الهجريين ) .يحكى لنا وكيل الأزهر الشريف : العلامة الجليل صالح موسى حسن أحمد شرف العدوى , اطلق عليه فقيه المذاهب الأربعة , وشيخ علماء الصعيد , وشيخ علماء المالكية .يقول : ( كنت شغوفا جدا بعد التخرج أن أكون مدرسا فى الأزهر , أو فى المعاهد التابعة لهم , وكانت قاعدة التوظف للعلماء لا تشملنى , لانها كانت تخص العشرة الأوائل فقط , فمكثت أترقب دورى , وفى أثناء ذلك قدمت طلبات للمدارس الأهلية , ومجالس المدريات والمساجد , ولكن شاء القدر أن أوظف فى المساجد , فعينت إماما وخطيبا ومدرسا بمسجد ( منشاة الدبان ) التابعة لمركز بنى مزار , بمدرية المنيا.فسافرت إلى هذه الجهة , وأقمت هناك سنة لم أر فى حياتى مثلها , فمن إكرام وإجلال وإقبال رأيته من هذه البلاد , وكانت هذه البلده التى عينت فيها مشهورة بكثرة حوادثها , والخصومات بين أهلها , حتى إنهم حسبوا لها فى سنة من السنين جنايات أكثر من جنايات مدرية المنيا كلها , ولكن بفضل العلم ونشره بين أهلها حلًّ الوفاق , وزال ما بينهم من الشقاق , وتسابقوا إلى حضور دروسى شبانا وشيبا , وكان الرجل إذا سمع الدرس ذهب إلى أهله وبيته ذكر لهم مضمون ما سمعه .نعم ! قد أثر فيهم الإرشاد والوعظ فتصافحوا وتزاورا ـ بعد أن كان الكلام حراما بينهم ـ وعرف الناس عنهم ذلك , وعرفت الإدارة الحاكمة إنقلاب حالهم إلى أحسن , وعرف رجال القضاء ذلك أيضا , إذ لم تصل إليهم قضية فى مدة إقامتى بينهم , فتساءلوا عن السبب فعرفوا أن الوازع الدينى له تأثير شديد أكثر من الوازع الحكومى , فشكرنى المأمور على ذلك المجهود الذى بذلته بينهم .وكان يفد إلى دروسى كثير من أهل البلاد المجاورة , إما مشاة أو ركبانا , من صندفا , والبهنسا , وأبى العيدين , ومنشأة البابا , وساقولا , وغيرها , وكثيرا ما انتدبت لإلقاء دروس أو خطبة فى المساجد الأخرى , وإصلاح ذات البين فى جهات بعيدة .ولا أنسى ما حييت فضل ( آل عبد الرازق ) , تلك العائلة العريقة فى المجد والعلم , فقد حبونى بفضلهم , وغمرونى بعطفهم وكرمهم , خصوصا على عبد الرازق بك , عمدة منشأة اليوسفى , فقد آلى ألا أفارق منزله , وأن أكون فى ضيافته مدة إقامتى بمنشأة الدبان , فلقيت من إكرامه وحسن وفائه ما يعجز عن وصفه قلم , وكان يحضر دروسى هو وأولاده وأخوه .وفى سنة 1345ه , يناير 1926م نقلت إلى المسجد الأموى بأسيوط , وقد كان يوم سفرى من المنشأة إلى أسيوط يوم حزن ظهر على أهالى هذه البلاد جميعا , فقد خرجوا لوداعى , ولم يكتفوا بمحطة صندفا , بل ركبوا معى القطار إلى محطة بنى مزار , ولا زالت صلات المودة والتزاور بينى وبينهم قائمة نامية إلى وقتنا هذا , فجزاهم الله خيرا وبارك فيهم .وكان رحمه الله يكتب هذا الكلام فى 1354ه الموافق 1935م .ويعقب الدكتور أسامة الازهرى: فيقول : وهذا يكشف عن نبل الطباع فى قرية منشأة الدبان , وكيف أنهم ضربوا مثلا رفيعا وجليلا فى الاستجابة لإصلاح ذات البين , مما تكتمل به محاسنهم مع كرمهم وفضلهم . ويكشف لنا أيضا عن حقيقة دور رجال الأزهر فى بناء الإنسان , وحفظ الأوطان , وكيف أنهم ما دخلوا بلدا إلا حل فيه الأمان واجتماع الشمل .وقد تتبعت مواقف وأخبار مثل ذلك ، وسجلتها فى كتابى عن تراجم علماء المنيا ، وتاريخها .