مرثية أم …. نص لشعيب خلف

مرثية أم …. نص لشعيب خلف

إلي أمي في ذكري وفاتها تركتني في مثل هذا اليوم منذ ثمانية وأربعين عاما كان عمرها ساعتها لم يبلغ السادسة والعشرين وأنا لم أبلغ العامين، المشكلة الكبري أنني لم أر وجه أمي ولم أعثر لها علي صورة واحدة … كم أنت قاسية أيتها الحياة ….هذا النص كتبته في ذكري وفاتها . كيف أستبدل موتًا قديمًا بموت جديد في مقبرة فارغة من أفكاري؟

كلِ يومٍ أظنُ أني قادرٌ علي الحديثِ معَك ، أقولُ لنفسي اليومَ سأكتبُ نصًا عن هذه السيدةِ التي لم أرها من قبلُ، المجازُ يأبي أن يكونَ حقيقةً، والحقيقةُ تأبي إلا أن تكونَ موجةَ اتهامٍ للكفنِ الذي خان ، والجسدُ الحزينُ ينفضُ عنه قشرَ البراءةِ ، ليقفَ عاريًا في صحراءِ الجحودِ، سأركبُ البحرَ إلي جزيرةِ اللهبِ كي أبحثَ عن بديلٍ طازج للحليبِ الذي جفَ في عروقِ المسافاتِ ، عن بديلٍ للماءِ الذي ضل في عروق الصحاري، عن بديل للهواءِ الذي تبخر في فضاء السكوت، وبديلٍ آخرَ لمطارحةِ القسوةِ، فأتحولُ إلي طائرٍ لا يعرفه الناسُ، ولا الآلهةُ، يرسمُ حدودَ السماءِ بمنقارهِ الضعيفِ، ويختارُ ريشَه ريشةً ريشةً حتى لا يقع فريسةً لأصحابِ القرونِ الحادةِ، فيموتُ الكلامُ فوقَ عتبةِ الحياءِ المبررِ.ماذا أفعلُ كي تأتيَ مسرعةً كيما أراها ، أسقطُ من فوقِ السريرِ وأصرخُ كي تقومَ مفزوعةً من حلمِها الطويلِ، أحبو ناحيةَ الموقدِ وأضعُ النارَ فوقَ لساني كي تأتيني في المنامِ لأري صورتهَا مرةَ واحدةَ ، مرةَ واحدةَ فقط ، لم أجدْ في صندوقِها الخاصِ صورةً لحنانِها المسافرِ لفوقٍ، لم يستطعْ العرافون رسمَ ملامحِها فوقَ الماءِ المجاورِ لأحلامي الميتةِ، فتأتي مختبئةً في بطانةِ الموجِ ، منذُ ستٍ وأربعين سنةً أفعلُ ذلك، أسقطُ من فوقِ السريرِ ، وأحبو ناحيةَ الموقدِ، وأسقطُ في القدرِ وهي مازالت هناك ، إذًا سأفتلُ من الريحِ قيدًا وأشدُها لصدري من جديدٍ، أو تشدُني، لكي أضعَ نهايةً للغثيانِ الواصلِ حتى نهايةِ حنجرتي ، وأفتحَ لجزاري الأرواحِ طرقَ الجباناتِ المكتظةِ بالأحياء، وأغلقَ أجهزةَ الصوتِ عن أفواهِ الطبالين ، وأفتحَ مجري الماءِ فوقَ ساحاتِ الركضِ لأقفَ وحدي أكلمُ الله، فيمنحني دونَ رجاءٍ ريشةَ من جناحِ الذلِ أضعُها في مكحلةِ الأيام المتلونة، تراني تبكي من قلةِ حيلتي ومن كبريائي المقطوعِ من لحمي الحي ، وكيف أسددُ في العارضةِ والمرمي مفتوحٌ عن أخرِه .الأعين مطفأة بشفرة الثلج يا سيدتي، والريح تختار الطرق المُوحِلة كي تمشي فيها دون حساب لرائحة القرنفل الخارجة للتو من كوب الشاي الذي صنعته علي عيني، وأنا أرمي وجهي بعيدًا… بعيدًا، عند الصخرة، دون حساب لمشاعر سيزيف الزائفة، حيث اللغة المسكونة بالإفراد، المسروقة من جيب الدهشة، الحروف تنكمش في الصقيع كالجلد الذليل، لكنها لن تذهب مع القافلة التائهة إلي سرادق البيعة، ولن تجلس في الحجرات المعتمة، لتبحث عن مخبأ في بطانة الخوف، والكلمات الجاهزة تنتظر صاحبها عند فوهة المحرقة فلا يستطيع الإنكار.أنا مثلها رماد وماء، أضحك في عز البكاء، وأبكي عادة في سرادق البهجة، وأرشف الحزن مباشرة من الإناء، ليصير لي ريقًا أبل به لساني ساعة الحشرجة، لكنني أنظف داخلي جيدًا كل صباح ، وأفتح حسابًا لأذن الحائط التي ترمي للمارة سكوتي في الحفلة التنكرية، ليس لي قدرة يا أمي علي النوم منفردًا في حجرة الدفن، صوت العمال مزعج للغاية، أريد منك أن تغني لي أغنية أسمعها في أحلامي قبل اليقظة البعيدة، وأنت ما زلت في ملابس البهجة البيضاء، طائرة بأجنحة خضراء تحت المطر اليابس ، نسيانك لي واضح يا أمي، أنا المسكين النائم تحت القشرة في العش المنكوش، ومنقار الريح كسن نملة الدبانة ، ومفتاح البيت معك ، والبنت التي تمشي في دمي ذهابًا وعودة تنام في عش مغاير، الآن أمشي وحدي منذ فترة طويلة بين الفخذ و بين الرئة، فأعتر في خطوي مرارًا، ومع ذلك لم أحس القشعريرة التي تجوب ثيابي وتغني الموال الذي رفضت الرقابة في الزمن الفائت إذاعته، لكنني أدرك جيدًا مرارة الحلق التي تولد كل يوم، فأخرج لأقابل موتًا قديمًا بموت جديد في مقبرة فارغة من أفكاري .

admin

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *