حفظ الأدب في الحكم على والدي النبي ﷺ. . . مصر الازهر
صح في الحديث عند مسلم وغيره عَنْ أَنَسٍ ــ رضي الله عنه ــ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيْنَ أَبِي؟ قَالَ: فِي النَّارِ، فَلَمَّا قَفَّى دَعَاهُ، فَقَالَ: “إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ”.وروى مسلم ــ أيضًا ــ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ــ رضي الله عنه ــ قَالَ أَتَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَبْرَ أُمِّهِ فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي عَلَى أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا فَلَمْ يُؤْذَنْ لي، فَاسْتَأْذَنْتُ أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأُذِنَ لِي، فَزُورُوا الْقُبُورَ، فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ بِالْمَوْتِ.وقد كثر الغلط حول هذين الحديثين حتى عدَّ جماعة من المعاصرين أن تكفير والدي الرسول ﷺ من تمام الإيمان، وأنك إذا قلتَ بنجاتهما فإنك تُغضِبُ رسول الله ﷺ الذي قال بأن أباه وأمه في النار!والحق أن هذا اجتراء غير جائز، وتطاول على فهم النصوص الشرعية غير مقبول،
فالثابت عن رسول الله ﷺ أنه كان يكره من يذكر أهله بسوء، وخاصة آباءه وأجداده، فعن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب قال: أتى ناس من الأنصار النبيَّ ﷺ فقالوا : إنا نسمع من قومك حتى يقول القائل منهم: إنما مثل محمد نخلة نبتت في الكبا – قال حسين: الكبا: الكناسة – فقال رسول الله ﷺ: “أيها الناس من أنا؟، قالوا: أنت رسول الله، قال: ” أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب”، قال: فما سمعناه ينتمي قبلها” ألا إن الله ــ عز وجل ــ خلق خلقه ثم فرقهم فرقتين فجعلني في خير الفريقين ثم جعلهم قبائل فجعلني في خيرهم قبيلة، ثم جعلهم بيوتًا فجعلني في خيرهم بيتا، فأنا خيرهم بيتًا وخيرهم نفسًا صلى الله عليه وآله وسلم.رواه الترمذي وحسَّنَه،
وقال الهيثمي: “رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح”، وقال شعيب الأرنؤوط حسن لغيره.والجواب عن الحديث الأول نقول: ليس هذا الحديث أو غيره صريح في دخول والديه النار، وذلك لأن العرب تطلق لفظ (الأب) على الأب الحقيقي، وتطلقه كذلك على من يقوم بالتربية، وتطلقه على العم، وتطلقه على الجد، فلماذا حملنا اللفظ على ظاهره هنا، وهو يحتمل أن يراد به أحد أعمامه وهم كثر، وليس والده؟ لأن أبويه وجده من أهل الفترة،
وقد جاءت نصوص اللغة وآيات القرآن الكريم في أكثر من موضع تشير إلى إطلاق الأبوة على ما ذكرت، فاستعمال الأبوين من غير ولادة حقيقية مجاز صحيح في اللسان العربي، فالعرب تجعل العم أبًا، والخالة أمًّا ومنه قوله ــ تعالى ــ: وَرَفَعَ أبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ [يوسف: 38] يعني أباه وخالته، وكانت أمه قد ماتت وهو صغير، وقال ــ أيضًا ــ حكاية عن يوسف وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ [يوسف: 38].وكان إسحاق جده وإبراهيم جده لأبيه، وكذا فإن المراد من قوله ــ تعالى ــ: كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ [الأعراف: 27] أي: آدم وحواء.
فالقرأن الكريم جاء بهذا الإطلاق وحمله العلماء على ذلك دونى أدنى غضاضة، أما حمل لفظ الحديث هنا على ظاهره فجهل بلسان العرب وأساليبها في الخطاب، وتعنت واضح.وكان الحمل على المجاز هنا لقرينة قوية، وهي قوله : وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15].والمعلوم أن أهل مكة وفيهم آباء النبي ﷺ لم يرسل الله تعالى إليهم رسلًا؛ لقوله : لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [سورة القصص: 46].ولقوله تعالى: لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ [يس:6].فكانت دعوة كل نبي خاصة بقومه الذين بُعث فيهم، ولم يرسل الله تعالى إلى قومه أحدًا، فكيف يرفع الله العذاب عمن كان قبل بعثته ويحاسب عليه الأبوين الكريمين؟!.أما عن نهيه ﷺ في الاستغفار لأمه والإذن له بزيارتها؛ فليس في ذلك التصريح بكفرها، بل هو نظير نهيه ﷺ عن الصلاة على من كان عليه دَيْن،
ولم يحكم أحد بأنهم في النار أو على الكفر، وقد ورد عنها ما يثبت أنها على التوحيد كما رواه غير واحد من قولها لسيدنا المصطفى: دين أَبِيك الْبر إبراهام … فَالله أَنهَاك عَن الْأَصْنَام، ألا تواليها مع الأقوام” سبل الهدى والرشاد (2/121)، الخصائص الكبرى للسيوطي (1/135)، المواهب اللدنية للقسطلاني (1/102).وهناك أدلة كثيرة صحيحة تشير إلى القول بنجاتهما ونجاة أصله ﷺ، ومن ذلك:نهى رسول الله ﷺ عن الافتخار بالآباء المشركين فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: “لَا تَفْتَخِرُوا بِآبَائِكُمِ الَّذِينَ مَاتُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَمَا يُدَهْدِهُ الْجُعَلُ بِمَنْخَرَيْهِ، خَيْرٌ مِنْ آبَائِكُمِ الَّذِينَ مَاتُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ” رواه أحمد في مسنده وابن حبان في صحيحه.ولكنه افتخر بآبائه وأمهاته،
فكان يقول يوم حنين بين أصحابه في المعركة: “أَنَا ابْنُ الْعَوَاتِكِ” أي الطاهرات المتطيبات بالطيب.وكان ﷺ يقول: “أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب”.وروى البخاري في صحيحه قال ﷺ: “بعثت من خير قرون بني آدم، قرنًا فقرنًا، حتى كنت من القرن الذي كنت فيه”.فكيف ينهى عن الافتخار بمن ماتوا في الجاهلية ثم هو يفتخر بأصله ﷺ!. وهذا ينبئك عن صحة إيمان أصله.ثم إن أحاديث الاصطفاء صحيحة ثابتة لا مطعن فيها، وهي تشير إلى أن الأرض من لدن آدم إلى يوم القيامة لم يرفع منها التوحيد قط، بل يوجد مع عموم الشرك بعض الموحدين، وهنا ملحظ مهم:كيف أنه يخبر عن اصطفاء الله تعالى له من طريق أجداده، وكيف كانوا على الشرك؟ نقول لهؤلاء: كيف نجمع بين قضية الاصطفاء لهم وأنهم كانوا على الشرك؟ هل من الممكن أن يكون الاصطفاء لمشرك على موحد؟ وحتى نفهم قضية الاصطفاء على وجهها يجب الجزم بأن آباءه كانوا على التوحيد؛ ليكونوا حقًا هم خير أهل أزمانهم، وإن لم نقل ذلك يلزمنا القول بأن الله ــتعالى ـ قد اصطفى آباء النبي ﷺ على الموحدين في أزمانهم، فتأمل.ولذا ذهب جمهور أهل العلم إلى القول بنجاتهما أو التوقف في ذلك، بينما مال بعضهم إلى الحكم بظاهر الحديثين، ونحن نقول بقول جمهور أهل العلم.
فقد سُئِلَ القَاضِي أَبُو بكر ابن الْعَرَبِيّ أحد أئمة الْمَالِكِيَّة عَن رجل قَالَ: إِنَّ أَبَا النَّبِي ﷺ فِي النَّار؟ فَأجَاب: بِأَنَّهُ مَلْعُون؛ لِأَن الله تَعَالَى يَقُول: إِن الَّذين يُؤْذونَ الله وَرَسُوله لعنهم الله فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة قَالَ: وَلَا أَذَى أعظم من أَن يُقَال عَن أَبِيه إِنَّه فِي النَّار”.وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني ــ أنار الله مرقده بنوره ــ: “ونحن نرجو أن يدخل عبد المطلب وآل بيته في جملة من يدخلها طائعًا فينجو”. الإصابة في تمييز الصحابة (7/210).وحكى الحافظ السيوطي عن شيخه شرف الدين المُناوي فقال: سمعت شيخ الإسلام شرف الدين المناوي، فإنه سئل عن والد النبي ﷺ هل هو في النار؟ فزأر في السائل زأرة شديدة، فقال له السائل: هل ثبت إسلامه؟ فقال: إنه مات في الفترة، ولا تعذيب قبل البعثة” الحاوي للفتاوي للحافظ السيوطي (2/245).وكتب الحافظ السيوطي: “التعظيم والمنَّة في أن أبوي النبي ﷺ في الجنة” وهو مطبوع بتحقيق الشيخ حسنين مخلوف مفتي الديار المصرية.
وكتب يوسف البديعي الدمشقي المتوفى 1073هـ: “هدايا الكرام في تنزيه آباء النبي ﷺ”.وكتب العلامة محمد بن رسول البرزنجي المدني المتوفى 1103هـ “سَداد الدين وسِداد الدَّيْن في إثبات النجاة والدرجات للوالدين” وهو مطبوع.وكتب الشيخ علي الداغستاني المتوفى 1199هـ رسالة في “نجاة أبوي الرسول ﷺ”.وكتب العلامة المفتي الأعظم في الهند محمد أختر رضا القادري الحنفي الأزهري رسالة في تحقيق أن أبا سيدنا إبراهيم ﷺ تارح لا آزر، وهي مطبوعة، وله: (شمول الإسلام لأصول الرسول ﷺ الكرام).فعلى هؤلاء المتجرئين على آباء الجناب النبوي أن يتورعوا عن هذا، ولا يؤذوا رسول الله ﷺ في أبويه الشريفين، فإما أن يقولوا خيرًا وإما أن يكفوا ألسنتهم عن الخوض في ذلك، ونسأل الله تعالى أن يعلمنا ما جهلنا وأن ينفعنا بما علمنا وأن يزيدنا علمًا، والحمد لله رب العالمين.